منذ ما يزيد على ألفي عام، تقف الكنيسة الكاثوليكية كمؤسسة دينية فريدة من نوعها، ليس فقط من حيث العقيدة أو الامتداد الجغرافي، بل في قدرتها الاستثنائية على البقاء، التأثير، وإعادة إنتاج سلطتها عبر العصور. فكيف استطاعت هذه المؤسسة أن تحافظ على نفوذها السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ ومن أين جاءت بتقاليدها المعقدة مثل طقوس دفن الباباوات وانتخاب وتنصيب الخلفاء؟
تعتبر الكنيسة الكاثوليكية مؤسسة بروح “إمبراطورية” وهيليست مجرد طائفة دينية؛ إنها أشبه ما تكون بإمبراطورية روحية ذات نظام هرمي بالغ الدقة والانضباط، يتجاوز في تعقيده العديد من أنظمة الحكم السياسية. من الفاتيكان، الدولة الأصغر مساحةً في العالم، تُدار شؤون أكثر من مليار كاثوليكي حول العالم. البابا، الذي يُعتبر خليفة القديس بطرس، يجمع بين السلطة الدينية العليا، ومكانة رمزية هائلة تجعله أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا على الساحة الدولية.
سرّ النفوذ الديني والسياسي والاقتصادي الكاثوليكي لم يقتصر يومًا على المجال الروحي فقط. عبر العصور، لعبت الكنيسة دورًا سياسيًا محوريًا، سواء من خلال تدخلاتها في تنصيب الملوك، أو عبر سيطرتها على التعليم والمعرفة في أوروبا خلال العصور الوسطى. حتى اليوم، تمتلك الكنيسة أصولاً واستثمارات ضخمة، وتُدير مؤسسات تعليمية، وإعلامية، وخيرية في مختلف أنحاء العالم.
أحد أكثر الجوانب إثارةً للدهشة في المؤسسة الكنسية الكاثوليكية هو طقوسها الدقيقة في لحظات التحول، وأبرزها ما يتعلق بوفاة البابا وانتخاب خلفه. يتم دفن البابا وفق طقوس قديمة تتضمن التحقق من وفاته بشكل رمزي عبر نداء اسمه ثلاث مرات وعدم الرد، ثم كسر “خاتم الصياد” الخاص به، كعلامة على نهاية سلطته.
أما انتخاب البابا الجديد، فيخضع لنظام الـ كونكلاف (Conclave)، وهو اجتماع مغلق يجمع الكرادلة الناخبين من شتى بقاع الأرض داخل كنيسة السيستينا، حيث يُمنعون من أي تواصل مع العالم الخارجي إلى حين انتخاب بابا جديد، عبر تصويت سري يستمر جولات متعددة حتى يحصل أحدهم على ثلثي الأصوات. فيصعد الدخان الابيض.
قد تختلف الآراء حول مواقف الكنيسة الكاثوليكية من القضايا الاجتماعية المعاصرة، لكن ما لا يمكن إنكاره هو قدرتها الاستثنائية على الثبات في عالم متغير والحفاظ على وحدتها وامتدادها، وسط موجات العولمة والعلمانية والصراعات الثقافية. ربما يكمن سرّها في توازنها بين التقاليد والحداثة، بين الروحانية والتنظيم الإداري الصارم.
د. حبيب باشا